في تحول اقتصادي لافت يعكس تغيرات جوهرية في السياسة الاقتصادية السورية، أعلن وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال، محمد أبازيد، أن الحكومة تدرس خصخصة الشركات الحكومية الخاسرة كجزء من خطة إعادة بناء الاقتصاد السوري. التصريحات تكشف عن توجهات جديدة تتبناها الحكومة، وهي خطوة تعكس الابتعاد عن النهج الاشتراكي الذي كان سائداً في الفترات السابقة.
الشركات الخاسرة والخصخصة كخيار استراتيجي
بحسب ما جاء في تصريحات وزير المالية، فإن أكثر من 70% من شركات القطاع العام ذات الطابع الاقتصادي تُصنف على أنها خاسرة، على الرغم من تقديم بعضها خدمات حيوية وحصرية للدولة مثل الكهرباء والدفاع. هذا ما دفع الحكومة إلى التفكير في خصخصة هذه الشركات كوسيلة لجذب الاستثمارات الأجنبية، مع إصدار قوانين جديدة تهدف إلى تحسين البيئة الاستثمارية في البلاد.
اقتصاد منهك وأرقام صادمة
الأرقام التي قدمها أبازيد تعكس عمق الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها سوريا. فقد تراجع الناتج المحلي الإجمالي من 60 مليار دولار في عام 2010 إلى أقل من 6 مليارات دولار في عام 2024، وهو ما يشير إلى الانهيار الكبير في البنية الاقتصادية نتيجة سنوات الحرب. كما كشف الوزير أن الخزائن الحكومية كانت خاوية عند تسلم الحكومة الحالية مهامها، مشيراً إلى أن احتياطي الذهب لا يتجاوز 26 طناً، بقيمة تقدر بـ 2.2 مليار دولار، مع وجود مبالغ نقدية صغيرة من احتياطيات العملة الصعبة.
إعادة الإعمار والبنية التحتية
من أهم أولويات الحكومة في الفترة المقبلة، وفقاً لتصريحات وزير المالية، هو التركيز على إعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة، بما يشمل شبكات الطاقة، والمواصلات، والمياه، والاتصالات. وتشير تقديرات البنك الدولي والأمم المتحدة إلى أن تكلفة إعادة الإعمار ستتراوح بين 250 و300 مليار دولار، ما يتطلب دعماً دولياً كبيراً. وقد أكد أبازيد أن الحكومة الجديدة تعمل على التواصل مع جهات دولية وإقليمية للحصول على المساعدات اللازمة.
الزراعة والصناعة: قطاعات رئيسية للنهوض
في إطار خطة إعادة بناء الاقتصاد، وضعت الحكومة السورية القطاعين الزراعي والصناعي ضمن أولوياتها. القطاع الزراعي، الذي يشكل ركيزة أساسية للاقتصاد السوري، يعاني من خسائر تقدر بـ 16 مليار دولار خلال السنوات الست الأولى من الحرب وحدها. ومع ذلك، تسعى الحكومة إلى إنعاش هذا القطاع لتحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية، والعودة لاحقاً إلى التصدير.
أما القطاع الصناعي، الذي فقد 70% من قدراته الإنتاجية، فيُعتبر من القطاعات الحيوية التي تسعى الحكومة لإحيائها، بهدف خلق فرص عمل وتحسين الميزان التجاري.
قطاع النفط: المعضلة الكبرى
يعد قطاع النفط أحد الركائز الأساسية لإعادة بناء الاقتصاد السوري، إلا أن السيطرة على معظم مناطق الإنتاج من قبل “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) يمثل تحدياً كبيراً. تشير الإحصاءات إلى أن سوريا تمتلك احتياطياً نفطياً يقدر بـ 2.5 مليار برميل، مع وجود أكبر الحقول في المناطق التي تخضع لسيطرة قسد، مثل حقل الرميلان وحقل العمر. وفي حين لم يوضح وزير المالية كيفية التعاطي مع هذه المعضلة، أكد أن الحكومة تسعى لاستعادة جميع الموارد الوطنية.
تحديات العقوبات الدولية
إحدى العقبات الكبرى التي تواجه حكومة تصريف الأعمال هي العقوبات الدولية المفروضة على سوريا. وقد أشار الرئيس الأميركي جو بايدن في تصريحات سابقة إلى أن الولايات المتحدة ستراقب أفعال الحكومة الجديدة بدقة. هذه العقوبات تُعقد جهود إعادة الإعمار، وتجعل الوصول إلى مصادر تمويل دولية أمراً أكثر صعوبة.
خطوات أولية للإصلاح
على الرغم من التحديات الهائلة، اتخذت الحكومة السورية خطوات أولية لإصلاح الاقتصاد، منها تعيين ميساء صابرين كأول امرأة تتولى منصب حاكم المصرف المركزي، وإعادة العمل بأجهزة الصراف الآلي، واستئناف عمل المطارات الرئيسية، وعودة حركة الشاحنات التجارية مع الأردن. كما تدرس الحكومة زيادة رواتب العاملين في الدولة لتحسين الحد الأدنى للأجور، رغم عدم وجود وضوح حول مصادر تمويل هذه الزيادات.
سوريا على مفترق طرق
تعيش سوريا اليوم مرحلة دقيقة من تاريخها، حيث تقف على مفترق طرق بين إعادة الإعمار والعودة إلى الاستقرار الاقتصادي. الحكومة الجديدة، رغم التحديات، تسعى لوضع أسس اقتصاد حديث يعتمد على الخصخصة، وجذب الاستثمارات، وإعادة بناء القطاعات الأساسية.
ومع ذلك، فإن نجاح هذه الخطط مرهون بقدرة الحكومة على التعامل مع الملفات الشائكة، مثل العقوبات الدولية، واستعادة السيطرة على الموارد الوطنية، وتأمين التمويل اللازم لإعادة الإعمار. سوريا أمام فرصة جديدة، ولكنها تتطلب إرادة قوية وخطوات مدروسة لتحقيق تحول اقتصادي حقيقي يعيد للبلاد مكانتها.