يشهد العالم في السنوات الأخيرة طفرة استثنائية في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث أصبحت هذه التقنية محوراً للابتكار والاستثمار، مما رفع القيمة السوقية لشركات التكنولوجيا الكبرى إلى مستويات غير مسبوقة. ومع ذلك، تثار تساؤلات حول ما إذا كان هذا النمو يمثل بداية عصر جديد تتحول فيه هذه التكنولوجيا إلى العمود الفقري للاقتصاد العالمي، أم أنه مجرد فقاعة اقتصادية قد تنفجر في أي لحظة.
الطفرة الاستثمارية وأرقام غير مسبوقة
تشير الأرقام إلى سيطرة الشركات التكنولوجية الكبرى، المعروفة بـ”العظماء السبعة” (أبل، مايكروسوفت، أمازون، ألفابيت، ميتا، إنفيديا، وتسلا)، على الاقتصاد الرقمي. إذ أصبحت القيمة السوقية لهذه الشركات أعلى من الناتج الإجمالي للاقتصاد الصيني. على سبيل المثال، تجاوزت قيمة شركة “إنفيديا” السوقية 5 تريليونات دولار، ما يعادل تقريباً الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد الياباني.
هذه الأرقام تعكس ثقل قطاع الذكاء الاصطناعي في أسواق المال، حيث قادت الشركات التكنولوجية حوالي 75% من عوائد مؤشر S&P 500 وأسهمت بـ90% من نمو الإنفاق الرأسمالي.
مخاوف الخبراء: فقاعة أم اقتصاد قائم على التوقعات؟
رغم هذه الأرقام المذهلة، تثير الطفرة الحالية مخاوف بعض الخبراء الاقتصاديين. البروفيسور “بيرجل كاري”، أستاذ الاقتصاد الكلي، يستبعد وجود فقاعة كاملة لكنه يحذر من الإنفاق الضخم على البنية التحتية للقطاع، مشيراً إلى خطة “OpenAI” إنفاق 1.4 تريليون دولار خلال السنوات الثماني المقبلة، وهو رقم يفوق ميزانيات دول متوسطة الحجم. هذا الإنفاق يعتمد في جزء كبير منه على استدانة لا تعكس قدرة السوق على تحقيق عوائد حقيقية، مما يزيد من احتمالية حدوث أزمة إذا تباطأ الطلب.
من جانبها، ترى الدكتورة “إيفا بوب”، أستاذة إدارة الأعمال، أن القطاع يعتمد على “حلقة تمويل مغلقة”، حيث تأتي الاستثمارات من شركات التكنولوجيا نفسها بدلاً من المستخدمين أو الشركات الخارجية. ووفقاً لها، فإن هذا يخلق بيئة اقتصادية تعتمد على التوقعات المستقبلية أكثر من الإيرادات الحقيقية.
دفاع قوي عن القطاع
على الجانب الآخر، يرى الخبير الاستثماري “فنسنت سنكلير” أن الوضع الحالي يختلف جذرياً عن فقاعة الإنترنت في التسعينيات. فالشركات الكبرى تحقق أرباحاً حقيقية، والتقييمات المرتفعة تعكس انخفاض أسعار الفائدة وارتفاع المدخرات العالمية. كما أن الطلب على الذكاء الاصطناعي يفوق بكثير قدرة القطاع على توفير الطاقة والبنية التحتية اللازمة.
تحدي الطاقة: العقبة الأكبر أمام الذكاء الاصطناعي
أحد أبرز التحديات التي تواجه القطاع هو استهلاكه المتزايد للطاقة. يستهلك الذكاء الاصطناعي حالياً 1.5% من إنتاج الكهرباء العالمي، ومن المتوقع تضاعف هذا الرقم بوتيرة سريعة. تواجه بعض الشركات صعوبة في توفير الطاقة اللازمة لتشغيل مراكز البيانات الجديدة، مما يجعل “أزمة الطاقة” قضية مركزية في مستقبل القطاع.
ثلاثة سيناريوهات لعام 2026
أمام هذا المشهد المعقد، يقدم الدكتور “آرثر سميث”، أستاذ النظم الاستثمارية، ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل الذكاء الاصطناعي في عام 2026:
- فقاعة جزئية: تضرب الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد على الدعاية أكثر من الابتكار.
- تراجع الأسواق: يحدث إذا تباطأ الطلب وارتفعت تكاليف التمويل، مما يؤدي إلى تفاقم ديون القطاع.
- نمو مستمر: يستمر النمو بلا انهيار، حيث يصبح التحدي الرئيسي هو نقص العرض وليس الطلب، مما يشير إلى بداية عصر جديد للذكاء الاصطناعي.
خاتمة: عصر جديد أم أزمة مؤجلة؟
رغم المخاوف المشروعة حول التمويل والبنية التحتية، يشير الواقع إلى أن الذكاء الاصطناعي يحقق طلباً حقيقياً ومتزايداً. التحديات الكبرى تكمن في توفير الطاقة اللازمة لمواكبة نمو القطاع، وليس في تراجع الطلب. لذلك، فإن أي أزمة محتملة لن تكون شبيهة بالفقاعات الاقتصادية السابقة، بل ستكون مرتبطة بعجز العالم عن مواكبة طموحات قطاع يواصل النمو بوتيرة غير مسبوقة.
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد طفرة تقنية عابرة، بل هو نقطة تحول حقيقية قد تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي خلال السنوات القادمة.


